<blockquote class="postcontent restore ">
ابن سينا
أصله و مولده :
ابن سينا هو أبو علي الحسين ابن عبد الله الملقب بالشيخ الرئيس ولد سنة
370هـ - 980 ميلادية في قرية أفشنه قرب بخارى في تركستان أو ما يعرف حالياً
بجمهورية أزبكستان وفي بيت له اشتغال بخدمة الدولة، رحل مع والده وهو صغير
السن إلى مدينة بخارى حيث كانت تُعتبر كعبة العلماء وفيها تلقى ابن سينا
علومه ومعارفه وألمَّ بالقرآنِ الكريمِ فحفظه ولم يتجاوز عمره عشر سنوات،
وتابع دراسته في مجالات قواعد التربية الإسلامية من القرآن إلى التفسير
والأدب واللغة والفقه والحساب والهندسة وجميع العلوم الرياضية، والمنطق
والطب والكلام والفلسفة. وهي كما نلاحظ علوم متنوعة بعضها يرتبط بعالم
السماء، وبعضها يربط بعالم الأرض، ولقد شهد منذ صغره تضارب الآراء وتنازع
العقائد «لأنه نشأ في بيئة تميل إلى الحرية والتسامح». كان والده أحد مشايخ
الطائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من المسلمين ترتكز أفكارها على نمط من
الأفلاطونية الجديدة. ورغم أن ابن سينا لم يتبع أبداً معتقدات والده، إلا
أنه استفاد جداً من حقيقة أن الكثير من العارفين حينها كانوا يجتمعون في
البيت عند أبيه للحديث والمناظرة.
مرحلة الطفولة :
ولد الشيخ الرئيس ابن سينا عام 370هـ في قرية أفشنة ويقول نفسه:
تزوج أبي منها (أفشنه) بوالدتي وقطن فيها وسكن، وولدت منها بها ثم ولدت أخي
ثم انتقلنا إلى بخارى «وهي مدينة من بلاد ما وراء النهر فتحها قتيبة بن
مسلم الباهلي سنة 90هـ وكانت قاعدة الدولة السامانية التي ظهرت فيما وراء
النهر سنة 874هـ» أما والده فهو من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام
نوح بن منصور وعمل في وظيفة إدارية، وهي تقابل وظيفة الوالي أو مدير
الناحية أو عامل الإقليم، في قرية يقال لها «خرمثين» من ضياع بخارى، وهي من
أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها «أفشنة» التي ولد بها ابن سينا. والذي
يظهر أن والد ابن سينا عبد الله بن علي كان من الموظفين الكبار في عهد نوح
بن منصور وهو فارسي من أهل بلخ... التي تقع الآن في أفغانستان - أما
والدته فهي من قرية خرمتين - التي تقع في بخارى وهي اليوم في منطقة
أوزبكستان الروسية - ثم انتقلت وظيفة والده إلى بخارى قاعدة الدولة
السامانية حتى يتيح لولديه فرصاً أكبر من العلم والتعليم.
ويحضر الوالد لابن سينا معلم القرآن ومعلم الأدب فيقبل ابن سينا على
معلميه، وروي عن ابن سينا قوله: «وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب، وأكملت
العشر من العمر وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضي مني
العجب» (محمد خير عرقسوسي، 1982 ابن سينا والنفس الإنسانية).
والحق أن ابن سينا نضج فكره الوقاد وهو بعد لم يتجاوز العقد الثاني من
حياته، وكان يكمل وحده درس الطبيعيات والإلهيات، ثم تعلم الطب، وعالج
المرضى، وتعلم أوائل المنطق والهندسة والفلك.
كل هذا يدلنا أنه كان يدرس بجد، لا ينام ليلة بطولها، ولا يشتغل في النهار
بغير العلم إلى أن جمع بين العلم والسياسة يعد أن أصبح وزيراً.
وواضح أن ابن سينا في المرحلة الأولى من حياته التعليمية بدأ بتعلم القرآن
من أول يوم بدأ فيه الدراسة، ومع القرآن تعلم الأدب «وهو بلا شك أدب يتصل
بالقرآن الكريم وبالتعاليم، الإسلامية».
وقد رسم ابن سينا لوحة سريعة تضمنت خطوات تعليمه في المرحلة الأولى من
حياته في قرية بخارى وهي يومئذ كعبة العلماء حيث كان والده يبعث بولده (ابن
سينا) إلى معلم القرآن ومعلم الأدب، وروي أنه لم يكن تلميذاً عادياً يكتفي
بالحفظ عن ظهر قلب، بل كان ذكاؤه يظهر من حين لآخر في فهم معاني القرآن
الكريم، ويستظهر كتاب الله الكريم استظهاراً تاماً مجوَّداً مرتلاً، ثم درس
قواعد التربية الإسلامية والرياضيات والفلسفة والفقه والنحو والبلاغة
والمنطق والطبيعة.
وإذا تتبعنا مسيرة الشيخ الرئيس في طفولته نرى أنه أكبّ على دراسة الطب
فبرع فيه براعة منقطعة النظير لكنه لم يتخذه وسيلة إلى الكسب وجمع المال،
والذي يستعرض براعة ابن سينا في الطب وفي العلوم الأخرى يرى أنه كان
موسوعياً كثير الإنتاج، وقد شملت كتاباته جميع الجوانب العلمية والمعرفية،
وقد عرف بميله الغريزي للمطالعة والتنقيب في الكتب.
ويظهر لنا شغفه بالمطالعة من القصة التالية حيث قال: «وكان سلطان بخارى في
ذلك الوقت، نوح بن منصور، واتفق له مرض تلجلج الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر
بينهم بالتوفر على القراءة فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت
وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوماً الإذن لي في دخول دار
كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي، فدخلت داراً ذات
بيوت كثيرة في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب
العربية والشعر وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد، فطالعت فهرست
كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها. ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه
إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته من بعد، فقرأت تلك
الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه».
ولعل السماح له بدخول مكتبة الأمير نوح بن منصور الساماني وإقباله على
قراءة ما تحتويه من كتب نادرة، ما يؤكد على مدى حبه للمطالعة، وقد حاز في
هذا المضمار شهرة عالمية لم ينلها أي عالم آخر ذلك لأنه يقرأ ويكتب أو يملي
في يسر وسهولة وما قوله: «وظفرت بفوائدها» إلا إشارة إلى أنه أخذ من كل
كتاب قرأه كفاية ما يريد الحصول عليه.
وأياً ما كان فقد ترقى ابن سينا خلال مرحلة طفولته على توالي الزمن حتى
أصبح من الرجال القلائل في العالم الإسلامي الذين يصح أن نسميهم
«موسوعيين»، فقد خلّفَ لنا ثروة كبيرة انتشرت في جميع أنحاء العالم، ونسب
إليه ما ليس له من الكتب لترويجها.
مرحلة الشباب :
كان ابن سينا في السابعة عشرة من عمره حينما أسعده الحظ بشفاء الأمير نوح
ابن منصور الساماني الذي كان يعاني من مرض عضال، و طلب منه الأمير أن يختار
جائزة فاختار ابن سينا الإذن له بدخول مكتبة الأمير !! حيث كانت تحوى قيم
الكتب ، وحينما أذن له هذا الأمير بالدخول إلى دار كتبه أقبل ابن سينا على
قراءة ما تحتويه من كتب نادرة ولقد تمكن باطلاعه على مكتبة نوح بن منصور أن
يلمّ بكثير من العلوم وهو في ريعان صباه، مما أدى إلى كثرة تأليفه، وقيل:
إنه كان يكتب يومياً خمسين ورقة كمعدل وسطي، دون الرجوع إلى أي مصدر،
«وحينما احترقت مكتبة نوح ابن منصور قيل: إن ابن سينا هو الذي أحرقها كي لا
يطلع أحد غيره على ما تشتمل عليه من نفائس الكتب» ( فخري رشيد خضر، بدون
تاريخ تطور الفكر التربوي).
روي أنه كان كثير التنقل في حياته بين مدن جرجان وهمذان وأصفهان، واستقر في
همذان فترة من الوقت حيث عمل وزيراً لشمس الدولة أبي طاهر الديلمي غير أن
جنود شمس الدولة ثاروا على ابن سينا ونهبوا داره وقبضوا عليه فنفاه شمس
الدولة إرضاء لهم ولكنه ما لبث أن أعاده إليه. وبعد عودته أصيب بمرض معوي
مؤلم، وجرت محاولات كثيرة من قبل الأطباء لمعالجته ولم يكتب لهم النجاح في
شفائه فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات حتى تقرَّحت أمعاؤه، وعندما أحس
بدنو الأجل استسلم للقضاء ووزع ماله على الفقراء وأهمل مداواة نفسه وفارق
الحياة عن عمر يناهز السابعة والخمسين فدفن في همذان تحت السور من جانب
القبلة، وقال المؤرخون: إن قبر الشيخ الرئيس معروف هناك لدى عامة الناس.
وفي حديث لابن سينا وهو يترجم سيرته الذاتية التي رواها تلميذه أبو عبيدة
الجوزجاني حديث نشأته فيقول: «إن أبي كان رجلاً من أهل (بلخ) وانتقل إلى
(بخارى) في أيام (نوح بن منصور) واشتغل بالتصرف وتولى العمل في أثناء أيامه
بقرية يقال لها: (خرميشن) من ضياع بخارى وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية
يقال لها: أفشنة وتزوج أبي منها بوالدتي، وقطن بها وسكنها وولدت له بها،
وولد أخي ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب، وأكملت
العشر من العمر، وقد أتعبت على القرآن، وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي
مني العجب...».
دراسته :
إن ابن سينا كان متوقد الذكاء، امتاز بمواهبه الفذة، وعبقريته الأهابة في
تعلم القرآن والأدب وهو ابن عشر سنين وتعلم حساب الهند، واشتغل بالفقه
وتردد على إسماعيل الزاهد، حتى ألف طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب
على الوجه الذي جرت عادة القوم به». ثم ابتدأ كتاب إيساغوجي على الناتلي
(أبو عبد الله الناتلي، بدون تاريخ، حكماء الإسلام) ، وأحكم المنطق، وكتاب
أقليدس(أبو عبد الله الناتلي، بدون تاريخ، حكماء الإسلام)، وانتقل إلى
المجسطي، قرأها جميعاً على نفسه، وفهمها، واستمّر على طريقته يعلّم نفسه
ويثقفها، يقول: (وصارت أبواب العلوم تتفتح عليَّ، ثم رغبت في علم الطب،
وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من الأمور الصعبة، فلا جرم
أنني برّزت فيه في أقلّ مدة... وتعهدت المرضى، فانفتح عليّ من أبواب
المعالجات من التجربة ما لا يوصف»(الناتلي أبو عبد الله، بدون تاريخ، حكماء
الإسلام هو أبو عبد الله الناتلي (تاريخ حكماء الإسلام) والناتلي: نسبة
إلى ناتله، ويقال: ناتل، مدينة بطبرستان (معجم البلدان).)، إن طريقة ابن
سينا في التعلم الذاتي تعتمد على الجهود الذاتية لتعزيز ذاتيته الفكرية
والمعرفية، والحقيقة أن ما نسميه، ونقرؤه لا يصبح ملكاً لنا إلا من خلال
التفكير فيه؛ فبالتفكير وحده يمكن أن نصفي مما قرأنا ما يدعم رؤيتنا
المعرفية، أو يعدّلها، أو يضيف إليها، وبذلك كان ابن سينا يتبع أسلوب
الحوار والمناظرة، فهو يرى أن الأفكار في لحظة إنتاجها أو استقبالها، يكون
لها وهج ورهبه، ولها وقع في النفس، وتوضح موضع التمحيص على محكات الجدل،
وذاك هو طريق نضجها واكتمالها. وهكذا كان الشيخ الرئيس يدرس بجد، لا ينام
ليلة بطولها، ولا يشتغل في النهار بغير العلم، (ويصلي إذا ما أغلق عليه
عسير، ومن أعسر ما لقي في درسه فهم الهبات لأرسطو فقد حفظها ولم يفهمها،
وصدف أن قرأ كتاب الفارابي في أغراض ذلك الكتاب، ففهمه وتصدق على الفقراء
شكراً لله»(يوحنا قمير،1982، - فلاسفة العرب - ابن سينا). وهذا ما أدى إلى
لفت الأنظار إليه منذ عهد مبكر، حتى إن الناتلي نفسه نصح والده ألا يشغله
بغير العلم، وهذا ما اتبعه، فلم يعرف طعم الراحة، حتى أحكم علم المنطق
والعلم الطبيعي والعلم الرياضي، وإنه ليقول قول الواثق مما يذهب إليه: «وكل
ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزد فيه إلى اليوم» ويروى في
مسألة نشأته وما يتصل بأسرته ثقافياً وعلمياً وتربوياً ومكانته بين رجال
العلم والفكر «إنه أول فيلسوف عربي ترك لنا من لفظه شيئاً عن سيرته ووصف
حاله» (جميل صليبا: 1937، ابن سينا) لقد كان الشيخ الرئيس متفائلاً في جميع
مراحل حياته يعتقد أن العالم الذي نعيش فيه أحسن العوالم الممكنة وكان
شديد الارتباط بموطنه الأصلي، فهو لم يغادر موطنه مرة واحدة رغم اضطراب
حياته فيها، وهو بذلك يخالف الفارابي «الذي كان يجول البلاد دون التقيد بأي
رابطة طبيعية أو اجتماعية» (محمود عبد اللطيف، 2004، الفكر التربوي عند
الجاحظ). ويتضح لنا من دراسة ابن سينا أنه منذ صغره كان يبذل جهداً كبيراً
لتلقي العلم والمعرفة بين مختلف الاتجاهات، وقد تكونت لديه الرغبة في
الحصول خاصة على العلوم الفلسفية والهندسية، وكان والده يؤمن له كل
المقومات التي تسهم في اكتسابه وحصوله على المعرفة والفكر، وقيل: إن والده
أرسله إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند وهو(محمود المساح) الذي
وصفه البيهقي بقوله: «وكان عالماً في الحساب والجبر والمقابلة». ثم أنزله
عند الناتلي ليتعلم منه المباحث العقلية، واستطاع الناتلي أن يصرفه عن
الاشتغال بالفقه والتصوف إلى العلوم العقلية والمباحث الفلسفية.
ثقافته :
وأما أنه عنوان ثقافة؛ فذلك لأنه يعبر تعبيراً صادقاً عن الفكر الإسلامي،
ولهذا الفكر خصائصه ومميزاته. أخذ عن اليونان والرومان، كما تأثر بالفرس
والهند والسريان، وضم هذا إلى ذاك، ليكوّن منه مزاجاً جديداً، ويصقله بصقله
الخاص، وبذا أضحى وليد بيئته وظروفه بقدر ما اعتمد على الثقافات العالمية
الأخرى» (إبراهيم مدكور، 1952، الكتاب الذهبي للمهرجان الألفي لذكرى ابن
سينا) وابن سينا - بين مفكري الإسلام - من خير من يحمل هذا الطابع ويعبر
عنه: ألمَّ بالثقافة الإسلامية الشاملة المعاصرة له، وهضمها خير هضم، ثم
ترجم عنها ترجمة صادقة، فكتب في الطب والكيمياء، والطبيعة وعلم الأحياء،
والفلك والرياضة، والمنطق والميتافزيقي، والأخلاق والسياسة، والتوحيد
والتفسير، وكتابا «الشفاء» و«القانون» خير مثل لهذه الثقافة الواسعة.
وغني عن البيان أن ابن سينا يعدّ قمة من قمم الثقافة العربية فقد استطاع أن
يحتفظ بمكان بارز في تاريخ الثقافات العالمية، أدى رسالته في المغرب كما
أداها في المشرق، أداها في الحاضر كما أداها في الماضي. إن ما جاء به الشيخ
الرئيس من المسائل الهامة والحيوية جداً التي تستحق التفكير والاهتمام
والتضحية، والعطاء في سبيل الكشف عن ماهية الثقافة التي تمتع بها. والذي
يقرأ كتابات ابن سينا سيلاحظ أنه كفيلسوف مسلم قد اتخذ من الوحي «قرآناً
وسنة» مصدراً أصيلاً من مصادر فلسفته، وإن كان فهمه للنصوص أحياناً قد تأثر
بثقافته الفلسفية اليونانية، وانتمائه الفكري الشيعي، إلا أن ذلك لا يلغي
تأثره الواضح والعميق بالقرآن والسنة ورجوعه إليهما في تكوين آرائه
الفلسفية والتربوية.
فقد كان أكثر الناس في عصره فهماً لآيات الله وتمثلاً لبديع قدرته فقال
تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون سورة العنكبوت
آية 43 وقد تضمن القرآن الكريم الكثير من الآيات التي دعت العقل إلى النظر
في موجودات الله يقول عز وجل: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها
وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها
من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب سورة ق آية 6،7،8.
لقد اهتم الشيخ الرئيس بالعلوم الدينية ورسم في الحضارة الإسلامية لوحة
كاملة لفلسفته التي تتناول كل شؤون الوجود، إذ حدد الغاية من العلوم
النظرية والعلوم العملية، فالعلوم النظرية تبقى في حدود العلم، في حين أنه
لابد في العلوم العملية من تجاوز العلم إلى العمل وإجراء التجارب للوصول
إلى الحقيقة وبهذا الصدد يقول ابن سينا: « فقد دللت على أقسام الحكمة، وظهر
أنه ليس شيء منها يشتمل على ما يخالف الشرع، فإن الذين يدعونها ثم يزيغون
عن منهاج الشرع، إنما يضلون من تلقاء أنفسهم، ومن عجزهم وتقصيرهم لأن
الصناعة نفسها توجبه، فإنها بريئة منهم»
أساتذة ابن سينا :
إن الناظر في حياة ابن سينا ونشأته يرى أنه ترك لنا من لفظه شيئاً كثيراً
عن سيرته ووصف حاله؛ وهو بحق أول فيلسوف عربي تحدث عن نشأته وما يتصل
بأسرته وميراثها الثقافي، والأساتذة الذين التقاهم، والأمراء والحكام الذين
قربوه وجعلوا له مكانة في بلاطهم، وبين رجال العلم والفكر في حلقاتهم
الخاصة، تعلم القرآن والأدب وهو ابن عشر سنين.
والحق أن ابن سينا تميّزَ بالثقافة الذاتية. وهذا ما جعله يعدل أحياناً عن
ذكر أسماء أساتذته الذين أخذ عنهم، وأفاد منهم بل تفوق على بعضهم معرفةً
وعلماً، ولعلّ أبرز أساتذته الذين تجلَّت آثارهم في مسيرته الثقافية
والموسوعية:
1- الفارابي الذي شكل مع ابن سينا ثنائياً لا ينازعهما منازع في الإسلام في
طول باعهما وقدراتهما المنطقية. الفارابي في شروحه وجوامعه ومختصراته،
وابن سينا في موسوعيته وتنسيقه ومنهجيته - مهد الأول للثاني فكان أبو علي
ثمرة من ثمار أبي نصر: «تميز عمله المنطقي بالاستيعاب والجدة والتحديد، مع
قدراتٍ وملكات فاقت الحد الأعلى لرجال عصره ومفكريه»(جعفر آل ياسين،1984،
دراسة تحليلية لحياة ابن سينا وفكره الفلسفي). والحق أن الفارابي وابن سينا
لا يبتعدان عن أن يكونا فيلسوفين تامي الشروط، يحيطان بمعارف عصرهما،
ويتأملان في كونه مجتمعاً وتاريخاً وأخلاقاً وتكويناً.
والذي يبدو أن ابن سينا كان عظيماً في كل شيء، إلا أن قدراته العقلية التي
تميز بها وهو في العاشرة من عمره فاقت أساتذته، وكان مرموقاً في طليعة رجال
الفلسفة عند العرب.
2- البغال - قيل إنه كان أول معلميه، ولم يفصح الفارابي عن اسمه وتسمية بعض
المصادر - مثل ابن أبي أصيبعة (محموداً) وقد تعلم ابن سينا على يديه حساب
الهند.
3- إسماعيل الملقب بالزاهد وكانوا يسمونه أبا محمد إسماعيل الملقب بالزاهد،
وقد عرف بالتصوف والعرفان وذكر الله، وقد درس ابن سينا على يديه علم
الفقه.
4- وفي مجال الفلسفة كان أبو عبد الله الناتلي ثاني أساتذته، وأطلق على ابن سينا صفة المتفلسف.
5- ذهب بعض المؤرخين إلى أن ابن سينا تتلمذ على أبي سهل عيسى ابن يحيى صاحب
كتاب (المئة في الطب) وهناك مصادر أخرى تشير إلى أنه تلقى علومه الطبية
على يد أبي منصور الحسن بن نوح القمري كما ورد في حواشي القزويني على كتاب
(جهار مقالة) للسمرقندي.
والحق أن ابن سينا برع براعة تامة في جميع العلوم معتمداً على ثقافته
الذاتية وفي رأينا أن هذه الثقافة الذاتية هي الأصل في بنائه العلمي بناء
محكماً دقيقاً، وهذا ما جعله أحد كبار فلاسفة الإسلام.
إن ابن سينا لم يكن طبيباً فقط، وإنما ألف في علوم الدين واللغة والهندسة
وطبقات الأرض. وتجلى ذلك كله في تعلمه الذاتي، ونشير إلى تأثره بأفلاطون
وأرسطوطاليس، وأفلوطين، وأساتذة مدرسة الإسكندرية، إلا أن تأثره بالفارابي
كان بشكل مباشر وباعتراف الحكيم نفسه. وهذا ما عمق قدراته العلمية
والتربوية - في إتقان الحقائق العلمية والتربوية وهضمها وتمثلها بسرعة
فائقة.
تلامذة ابن سينا:
لا أحد ينكر لابن سينا الآثار التي تركها من دور وأثر في بناء الإنسان
العربي المسلم بجانبيه الفردي والاجتماعي، وفي تكوينه الفكري والخلقي، ولا
تزال آثاره تُدرس وتدرَّس في الشرق والغرب من زوايا متعددة، وجوانب مختلفة
في مختلف الجوانب خاصة منها كتابه (القانون) في الطب.
دأب في (مجالس الأمراء) لمناظرة ومناقشة الجالسين في مختلف العلوم، وانصب
جهده العلمي على تلامذته ومن العلماء والحكماء الذين أعجبوا بشخصيته وعلومه
أشير إليهم في ثنايا كتب التراجم المختلفة ومنهم:
1- أبو عبيد عبد الواحد بن محمد الفقيه الجوزجاني: وكان ملازماً له في جميع
مجالسه بقي بجانب أستاذه ابن سينا أكثر من خمس وعشرين سنة أو كان لسان
حاله يساعده في جميع تصانيفه ومؤلفاته كما كان يشجعه على التأليف والكتابة
عندما أصبح وزيراً، وكان للجوزجاني الفضل الكبير في تأليف كتاب الشفاء.
وبعد وفاة ابن سينا تفرغ إلى جمع مؤلفاته وتصانيفه، وبذل جهداً كبيراً في
هذا السبيل وحقق ما أراد. وكتب الجوزجاني بعض الكتب المفقودة من خزانة
أستاذه وسيرته وحياته، وأكمل كتاب النجاة، وفسر مشكلات القانون وشرح رسالة
حي بن يقظان وهذا ما ذكره البيهقي بقوله: «ولم يوجد في تلامذة أبي علي أقل
بضاعة منه وسمعت بعض أساتذتي أنه قال: الحكيم أبو عبيد كان في مجلس أبي على
شبه مريد لا شبه تلميذ مستفيد» (ظهر الدين البيهقي، 1946، تاريخ حكماء
الإسلام - تحقيق محمد كرد علي) وهذا يشير إلى مكانة العلماء وأهميتهم في
المجتمع.
2- شرف الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الإبلاقي: نسب إلى مدينة إبلاق وهو
عربي الأصل كان عالماً وفقيهاً اتصف بذكائه الحاد له عدة مصنفات منها:
كتاب سلطان نامة وكتاب درست نامه، وكتاب اللواحق وغير ذلك من المؤلفات ومات
بعد ابن سينا بثلاثين عاماً.
3- غياث الدين عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري: كان عالماً باللغة والفقه
والتاريخ والعلوم الفلسفية، وكان يعتبر ابن سينا أستاذاً له، وكان مهتماً
بكتاب الشفاء لابن سينا، وقيل: قبل وفاته بفترة قصيرة كان يقرأ في كتاب
الشفاء ولما وصل إلى فصل الواحد والكثير توقف عن القراءة، وقال: أدعو
الأذكياء حتى أوصى، فأوصى وقام وصلى ولم يأكل ولم يشرب. فلما صلى العشاء
الأخيرة سجد وكان يقول في سجوده: «اللهم إنك تعلم أني عرفتك على مبلغ
إمكاني فاغفر لي فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك» (محمد كرد علي تحقيق، 1946،
تاريخ حكماء الإسلام) وكانت وفاته سنة 217هـ.
4- أبو منصور الحسين بن محمد بن عمر بن زبلة الأصفهاني: كان عالماً
بالرياضيات امتاز بالمهارة والدقة في صناعة الموسيقى والتأليف فيها، ومن
تصانيفه الاختصار من طبيعيات الشفاء، وهو من الذين شرحوا رسالة حي ابن
يقظان وذكر البيهقي أنه كان مجوسياً ويعتبر بحق من تلاميذ ابن سينا
المقربين له، توفي بعد ابن سينا باثنتي عشرة سنة»(محمد كرد علي تحقيق،
1946، تاريخ حكماء الإسلام).
5- أبو عبد الله بن عبد الله بن أحمد المعصومي: أجمع المؤرخون أنه كان أفضل
تلامذة أبي علي، وهو أصفهاني صنف كتاباً في المفارقات وأعداد العقول
والأفلاك وترتيب المبدعات، وذكر البيهقي: «أنه رأى رسالة في عالمية الله
تعالى منسوبة إليه» وظل المعصومي ملازماً لابن سينا حتى وفاة الشيخ الرئيس
فخلفه في البحث والتدريس إلى حين وفاته في عام 450هـ (ظهر الدين البيهقي،
بدون تاريخ، تاريخ حكماء الإسلام).
6- الرئيس كيا بهمنيار بن موزبان الأذربيجاني: وهو أحد تلامذة ابن سينا -
له مباحثات عديدة مع الشيخ الرئيس وقال البيهقي: «والمباحث التي لأبي
أكثرها مسائل بهمنيار للبحث عن غوامض المشكلات».
ومن تصانيف بهمنيار- كتاب الموسيقى، وكتاب الرتبة في المنطق، وبعض الرسائل
الأخرى توفي بعد ابن سينا بثلاثين عاماً. وهو مجوسي الملّة ثم أسلم ولا
يجيد العربية، عرفه الشيخ الرئيس وهو فتى في مطلع شبابه، فيه النجابة
والذكاء، وكان الشيخ الرئيس يلقبه في أخريات حياته بلقب الكيا، أي الرئيس،
ولقب سائر تلاميذه بلقب الفقيه أو الحكيم ومن تلامذة بهمنيار أبو العباس
اللوكوي وكان عالماً بأجزاء علوم الحكمة دقيقها وجليلها.
إن ما ذكره ابن سينا عن أساتذته يجعلنا على ثقة عامة أنه لايدين بشيء من
عبقريته وفطنته لأي من أساتذته، لقد كان شيخاً للمترددين عليه والملازمين
لمجالس علمه وتدريسه، وكانت مؤلفاته (منتشرة في الشرق والغرب) مرجعاً لكل
طالب علم في مختلف الجوانب العلمية والتربوية. ومن تلامذة بهمنيار أيضاً
أبو العباس اللوكوي وهو من قرى مرو وكان يتقن اللغة العربية إلى درجة مكنته
من نظم الشعر المتين.
ومن تلامذة ابن سينا أبو القاسم الكرباني، وأبو الريحان البيروني، وأبو
محمد الشيرازي، وسليمان الدمشقي - وابن مسكويه المتوفى421هـ، وأبو الحسين
العروضي، وأبو بكر البرقي الخوارزمي وآخرون»(عباس محمود العقاد،1952، الشيخ
الرئيس ابن سينا، الكتاب الذهبي للمهرجان الألفي).
</blockquote>
الموضوع الأصلي :
العالِم الموسوعة......... //
المصدر :
منتديات أحلى حكاية //
الكاتب: AGILIED1